بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
أنيميا البحر الأبيض المتوسط .. أسبابه وعلاجه
لعبت الوراثة، وربما البيئة أيضاً، دوراً مهماً في ظهور حالات مرض «ثالاسيميا». وأصل تسمية هذا المرض جاءت من لغة اليونانيين، حيث يُطلقون كلمة «ثالاسا» Thalassa
على «البحر». وكلمة «هيميا» Haema على الدم. وبالتالي لم يجد المُعرفون الطبيون بالأمراض، أفضل من اسم «ثالاسيميا» Thalassaemia لمرض الدم الوراثي المنتشر بين
أفراد شعوب مناطق البحر الأبيض المتوسط، وبنسبة هي الأعلى بين سكان اليونان وجزرها.
ولأن «فقر الدم» هو أهم أعراض هذا المرض الذي يطال بالضرر إنتاج نوعية سليمة من مركب الهيموغلوبين Haemoglobin، فإن لفظ «أنيميا»، أو فقر الدم، يُكمل التسمية
للمرض. «أنيميا البحر الأبيض المتوسط»، أو «ثالاسيميا»، من الأمراض الشائعة ليس فقط في كافة الدول المُطلة على البحر الأبيض المتوسط، بل في مناطق واسعة من غربي
آسيا وجنوبيها. وكذلك في بعض مناطق أفريقيا. ومن هذه المناطق انتشر مع هجرات الشعوب، إلى مناطق واسعة من العالم.
والمرض غير مُعد، ولا ينتقل من المُصاب إلى السليم عبر نقل الدم، بل هو مرض جيني ينتقل بالوراثة نتيجة للزواج، إما من الأم الحاملة للمرض أو من الأب الحامل
له.
فهم حقيقة المرض
وبالرغم من شيوع الإصابات بهذا المرض الوراثي في الدم، إلا أن كثيراً من المرضى أنفسهم ومن ذويهم لا يُدركون حقيقة المشكلة المرضية ولا جوانبها العلاجية والوقائية.
والغموض أو عدم الفهم مردّه ذلك التعقيد المتمثل في نوعية هذا المرض وآلية حصوله وتداعياته.
ولكي نُدرك بالفهم هذا المرض، علينا مراجعة المقدمات التالية:
- خلايا الدم الحمراء: يُكون الجسم ثلاثة أنواع من «الخلايا» في الدم. وهي لخلايا الدم الحمراء Red Blood Cells، وخلايا الدم البيضاء White Blood Cells، والصفائح
الدموية Platelets. وتحتوي خلايا الدم الحمراء على كميات من مُركب الهيموغلوبين.
ـ الهيموغلوبين: أو ما يُسمى بالترجمة للغة العربية بـ «خضاب الدم» أو «صبغة الدم». وهو مركب كيميائي، مُكون من أربعة سلاسل من البروتينات. وكل واحد من تلك
السلاسل مُلتف حول نفسه بطريقة قد تبدو للناظر أنها عشوائية. والمهم أن تلك السلاسل الأربعة تُكون شكلاً فريداً، أشبه ما يكون بأربع كرات متقابلة.
وفي المركز بين تلك السلاسل الكروية الأربعة يُوجد الحديد. أي أشبه ما يكون بزهرة مكونة من أربع ورقات تلتصق في المركز بدائرة صغيرة. هذا هو الهيموغلوبين الموجود
في داخل كرة الدم الحمراء. وبالمناسبة، فإن خلايا الدم الحمراء سُميت بـ «الحمراء» لأن لون مُركب الهيموغلوبين أحمر. ووظيفة الهيموغلوبين هي تكوين عربة، أو
ناقلة، يستقلها الأوكسجين في رحلته من الرئة إلى الأنسجة، عبر الدم. ويستقلها أيضاً ثاني أوكسيد الكربون في رحلته من الأنسجة إلى الرئة كي يتخلص الجسم منه هناك.
ـ بيتا وألفا: والسلاسل الأربعة للهيموغلوبين، منها اثنان من نوع ألفا ، واثنان من نوع بيتا. ومعلوم أن تكوين وإنتاج كل شيء في الجسم، سواءً كان مركبات أو أنسجة
أو خلايا أو أعضاء، يخضع لتعليمات مُشفرة ومختزنة في الجينات الوراثية الموجودة في داخل ألـحمض النووي «دي أن إيه» للكروموسومات Chromosome الموجودة في داخل
نواة كل خلية.
وضمن آليات وراثية معقدة عند التزاوج فيما بين الذكر والأنثى، تنتقل هذه المعلومات المُختزنة في الحمض النووي إلى الأبناء والبنات. ولذا تظهر تأثيرات هذه المعلومات
الجينية كصفات على الأبناء والبنات وفق طريقة قوية، تُسمى «سائدة»، أو وفق طريقة ضعيفة، تُسمى «متنحية». ـ المعلومات الوراثية: والخاصة منها لإنتاج سلاسل «بيتا»
مُختزنة في جين واحد وهو كروموسوم رقم 11.
بينما تلك التي توجه لإنتاج سلاسل «ألفا» فهي مُختزنة في 2 من الجينات متقاربين ضمن تراكيب كروموسوم 16. والإنسان الطبيعي، والذي لديه مكونات أربعة طبيعية من
سلاسل بروتينات الهيموغلوبين، يمتلك نسختين من كل كروموسوم. ولذا يملك موضعين loci يختزنان معلومات عن سلسلة «بيتا» وأربعة مواضع تختزن معلومات عن سلسلة «ألفا».
أي لدينا ستة مواضع لاختزان معلومات إنتاج هذين النوعين من السلاسل البروتينية.
ـ الثلاسيميا: مرض سببه نقص Deficiency في إنتاج إما سلاسل «ألفا» أو سلاسل بيتا. وهذا النقص في الإنتاج لا يكون إلا نتيجة لوجود خلل في توريث المعلومات المُختزنة
حول طريقة إنتاج أي من تلك السلاسل البروتينية.
ولذا لدينا بالعموم نوعان من «ثلاسيميا»، نوع فيه نقص وجود سلسلة «ألفا» ونوع فيه نقص وجود سلسلة «بيتا». ولكي يُنتج جسم الطفل السليم هذين النوعين من السلاسل
البروتينية عليه أن يأخذ من الأب ومن الأم كامل المواضع الستة لاختزان المعلومات عن سلسلة «ألفا» وسلسلة «بيتا».
- درجات الخلل: الخلل في توريث مواضع اختزان المعلومات لا يكون بالضرورة في 6 مواضع، بل قد يكون في أقل من ذلك. ولذا لدينا درجات متفاوتة الشدة في كل من حالات
«ثلاسيميا» الناجمة عن نقص إما «ألفا» أو نقص «بيتا».
ـ هيموغلوبين تعويضي: هناك أنواع عدة من الهيموغلوبين، منها ما يظهر في المرحلة الجنينية ويختفي تدريجياً مع ما بعد الولادة، ومنها ما هو خاص بالبالغين، ومنها
ما يُوجد في الدم خلال مراحل العمر كلها. ويختلف تركيب الهيموغلوبين من ناحية نوعية السلاسل البروتينية فيه. ونوع البالغين هو المكون من سلسلتين لـ «ألفا» وسلسلتين
لـ «بيتا».
لماذا أنيميا البحر مشكلة؟
من الضروري إدراك سبب المشكلة، خاصة حينما نتحدث عن مرض شائع في مناطقنا العربية والشرق أوسطية، في حين أنه مرض معقد في نوعية الخلل الحاصل في تكوين سلاسل بروتينية
داخل مركب الهيموغلوبين.
الإشكاليات في مرض «ثلاسيميا»، التي على المريض وذويه إدراكها وفهمها، تتمثل في ثلاثة أمور، هي الدور الوراثي للإصابة بالمرض، وعدم القدرة على إنتاج هيموغلوبين
طبيعي، وتداعيات وتأثيرات وجود هيموغلوبين غير طبيعي في دم المريض.
وكما سبق ذكره، يتكون الهيموغلوبين من أربعة سلاسل بروتينية. ووجودها بشكل طبيعي، أي اثنين «ألفا» واثنين «بيتا»، يُكون لنا هيموغلوبيناً ذا مقعد مُريح ومتسع
يُمكن للأوكسجين أن يدخل إليه كي يتم نقله من الرئة إلى الأنسجة التي تحتاج إليه لحياتها. أي يُمكننا من الحصول على سيارة قوية ورحْبة وقادرة على استيعاب الراكب
وتوصيله حيثما أراد، وإنزاله من السيارة بكل يُسر وسهولة حال وصوله إلى المكان الذي يُراد توصيله إليه.
وحينما لا يتمكن الجسم من إنتاج سلسلتين من نوع «ألفا» مثلاً، فإن الجسم لا يترك الهيموغلوبين مكوناً من سلسلتين فقط لـ «بيتا»، بل، وفي محاولة لترميم الوضع
كيفما اتفق، يُجبر آنذاك على إنتاج سلسلتين أُخريين من «بيتا» كي يكتمل تركيب الأربعة أجزاء للهيموغلوبين.
وهنا يتكون لدينا هيموغلوبين ذا أربعة سلاسل بروتينية من نوع «بيتا» فقط. وهذا الهيموغلوبين، الذي يُسمى بنوع اتش Hemoglobin H، لا يستطيع بكل سهولة توفير الراحة
لجلوس الأوكسجين، ولا يُمكن للجسم بالأصل إنتاج كميات عالية ولازمة من هذا الهيموغلوبين الشاذ في الدم. أي أن عدم قدرة الجسم على إنتاج سلاسل «ألفا» أدى إلى
عدم توفير أمكنة كافية تتسع لنقل كل الأوكسجين المطلوب نقله من الرئة إلى الأنسجة، وعدم قدرة الأوكسجين على الانفكاك من ذلك المقعد غير المريح والنزول في المكان
الذي يقصده، وأيضاً عدم قدرة الجسم على إنتاج كمية كافية من الهيموغلوبين للدم.
وهو ما يعني تلقائياً أن لدينا حالة من فقر الدم أو الأنيميا، لأن هذه الأنواع من الخلل في إنتاج السلاسل البروتيني ستؤدي إلى إنتاج هيموغلوبين ضعيف وغير طبيعي
البُنية، وستؤدي إلى إنتاج خلايا دم حمراء غير طبيعية من ناحية مكوناتها من الهيموغلوبين، ما سيُؤثر في حجم وعمر الخلية الحمراء نفسها.
أعراض مرضية لـ «الثلاسيميا»
وفي حالات الأنيميا الشديدة، أي في حالات «بيتا ثلاسيميا الكبرى» وحالات «هيموغلوبين اتش»، تظهر علامات متنوعة لفقر الدم على المرضى، ومنها شحوب لون الجلد وزوال
ذلك اللون الوردي لباطن الكف والخد وملتحمة العين، وتدني الشهية للأكل، وغُمْق لون البول، وبُطء النمو الجسدي، وتأخر البلوغ، وتضخم الطحال والكبد والقلب، واضطرابات
في سلامة شكل وبنية وقوة العظم. ونتيجة لأسلوب المُعالجة، الهادف للإبقاء على حياة المريض، فإن تكرار نقل الدم للمريض يتسبب بتراكم كميات كبيرة من الحديد في
الجسم، ما يتركز في أعضاء مهمة كالقلب والكبد والبنكرياس.
والواقع أن السبب الرئيس للوفاة لدى مرضى الثلاسيميا المُعالجين هو نتيجة لتأثر القلب بتراكم الحديد فيه، وهو ما يُؤدي إلى فشل القلب Heart Failure نتيجة للضعف
في قوة انقباض وانبساط عضلة القلب. وأيضاً ما يُؤدي إلى نشوء اضطرابات في كهرباء القلب وإيقاع النبض Arrhythmias وإلى النوبات القلبية Heart Attack.
كما ترتفع احتمالات الإصابة بالتهابات ميكروبية، ما يُجعلها السبب الثاني للوفيات بين مرضى الثلاسيميا. هذا بالإضافة إلى ضعف وهشاشة العظم.
معالجة مرضى الثلاسيميا
تعتمد معالجة حالات الثلاسيميا على نوعية وشدة الإصابة. والهدف هو تعويض النقص في إنتاج خلايا دموية حمراء قادرة على أداء مهمتها بيُسر وسهولة.
والأشخاص الحاملون للمرض، الذين لديهم أعراض خفيفة لفقر الدم، لا يحتاجون أي علاج مباشر، بل هي المتابعة ونصيحتهم بالاهتمام بالزواج من شخص خال من أية موروثات
جينية لأمراض الدم الوراثية.
أما الحالات المتوسطة والشديدة من فقر الدم لـ «ثلاسيميا» فتتطلب بالأساس ثلاثة عناصر علاجية. وهي، نقل الدم بانتظام Blood Transfusion، وإعطاء أدوية تُخلص
الجسم من كميات الحديد التي دخلت فيه نتيجة لتكرار نقل الدم Iron Chelation Therapy، وتناول حبوب فيتامين الفوليت Folic Acid. وهناك غير ذلك من المعالجات التي
يفرضها حال المريض.
ولا يُوجد علاج يشفي من المرض سوى زراعة الخلايا الجذعية للدم ولنخاع العظم Blood and Marrow Stem Cell Transplant. لكن، وكما تقول المؤسسة القومية الأميركية
للقلب والدم والرئة، فإن قلة من مرضى الحالات الشديدة من الثلاسيميا يجدون متبرعين مناسبين لهذه العملية الخطرة على حياتهم حال فشلها.
الوراثة ونقل مرض الثلاسيميا
لا يُصاب الأطفال، الذكور والإناث، بمرض الثلاسيميا إلا نتيجة تلقيهم موروثات المرض من والديهم. والإصابة بالمرض لا علاقة لها بالعدوى أو بتلقي دم من مُصاب
أو حامل للمرض. هذا هو الأساس في فهم الدور الجيني الوراثي للإصابة بـ «الثلاسيميا».
وفي علم الأمراض الوراثية، هناك نوعان من الناس:
النوع الأول، هم الأشخاص الذين يظهر عليهم المرض، أي مرضى.
والنوع الثاني، هم الأشخاص الذين يحملون في جيناتهم الوراثية صفات المرض لكن لا يظهر المرض عليهم، ويُسمون بـ «حاملين للمرض» Thalassemia Carriers لأن لديهم
سمات وصفات مرض «الثلاسيميا» Thalassemia Trait.
والحاملون للمرض قادرون على توريث المرض لأبنائهم أو بناتهم حال توفر ظروف ذلك. وتوفر ظروف ذلك، عبارة تعتمد على نوعية قوة تأثير الخلل الجيني لتوريث المرض
Pattern of Inheritance. بمعنى أن لدينا أمراضاً وراثية من النوع السائد Autosomal Dominant. وهنا يُصاب الطفل بالمرض متى ما دخل جيناته ذلك الخلل، سواءً من
الأم أو الأب.
وهناك نوع آخر من الأمراض الوراثية وذات طبيعة متنحيةAutosomal Recessive. وهنا لا يظهر المرض بكامل صورته على الطفل إلا إذا اجتمع له من الأم والأب ذلك الاختلال
في الجينات. وأنيميا حوض البحر الأبيض المتوسط، من الأمراض المنتقلة وراثياً بصفة متنحية. أي لا يظهر المرض لدى الطفل إلا حينما يكون كل من الأب والأم حاملين
لموروثات الخلل الجيني. وحينما يتزوج رجل حامل للجينات المُختلة بامرأة حاملة للجينات المُختلة، فإن 25% من ذريتهم سيكونون مرضى، و50% سيكونون حاملين للصفات
الوراثية للمرض، و 25% سليمين من المرض ومن حمل الصفات الوراثية للمرض.
ومن هنا تبدو أهمية الفحص الجيني Genetic Testing ما قبل الزواج، خاصة في العائلات أو المناطق التي يُوجد فيها انتشار للمرض. إذْ من الممكن جداً وقف توريث المرض،
من الأب أو الأم الحاملين للمرض أو المرضى، حال زواجهم بشخص خالٍ من أي جينات غير سليمة في صناعة وإنتاج سلاسل بروتينات الهيموغلوبين.
وللتذكير فقط، فإن الإحصائيات غير المؤكدة تتحدث عن وجود أكثر من 100 مليون شخص، على مستوى العالم، حاملين لسمات نوع «بيتا» من «الثلاسيميا». ناهيك عن عدد الحاملين
لنوع «ألفا» وناهيك عن العدد الحقيقي لو وُجدت إحصائيات عالمية دقيقة. كما تتحدث عن أن مناطق مثل الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط وشرقي وجنوبي الجزيرة
العربية والهند والصين وجنوبي شرق آسيا ومناطق متفرقة من أفريقيا، هي أماكن ومجتمعات ينتشر المرض فيها.
وبعض الدول، كقبرص واليونان، تُوجد جينات المرض لدى أكثر من 16% من السكان. وفي تايلاند حوالي نفس النسبة. وفي الهند وباكستان والصين وبنغلاديش، تتراوح ما بين
4 إلى 7%. ولا تُوجد إحصائيات دقيقة في غالبية دول العالم عن مدى انتشار المرض، خاصة مع موجات الهجرة البشرية في العقود القليلة الماضية.